منذ عشرين عاماً رحل عنا شاعرى المفضل الجميل الرائع صلاح عبدالصبور، شاعر الألم الذى ودعنا وهو على أبواب الخمسين بعد رحلة عطاء شعرية ومسرحية ونقدية خصبة، قسم فيها جهده الشعرى ما بين القصيدة والدراما، وما بين الديوان والمسرحية (حوالى خمسة دواوين وخمس مسرحيات)، لكنى أعتبر إنجاز عبدالصبور المتفرد والأقوى كان فى المسرح، فقد تخلص صلاح عبدالصبور من أسر الغنائية إلى حد كبير التى وقع فى فخها من قبله أحمد شوقى وعزيز أباظة رائدا المسرح الشعرى، كانت روح الدراما تسرى فى كيان ونسيج مسرح صلاح الشعرى ولا تتحول إلى قافية مفتعلة مصنوعة يسبق فيها جرس الشعر حبكة الدراما، ساعده فى ذلك قراءته المتعمقة لمسرح ت .س.اليوت، لذلك كانت سعادتى عميقة ببدء بروفات مسرحية «مأساة الحلاج» أجمل وأعمق وأروع وأغنى ما كتب صلاح عبدالصبور، وسعدت أكثر بأن مخرجها هو د.هناء عبدالفتاح، المايسترو الذى يستخرج من النص المسرحى موسيقاه الداخلية ويحوله إلى سيمفونية بصرية أو لوحة موسيقية سيتوجها المكان الأثرى البديع الذى اختاره لعرض المسرحية وهو «السمع خانة»، وسعدت أيضاً لاختيار الممثل الفنان خليل مرسى لبطولة المسرحية، وهو فوق أنه ممثل بارع فهو قد حضر رسالة دكتوراه فى مسرح صلاح عبدالصبور ويحفظ والأهم يستوعب كل أشعاره ومسرحياته عن ظهر قلب.

أنتظر هذه المسرحية بفارغ الصبر، فلم يحالفنى الحظ وصغر السن أن أراها لايف على المسرح وقت عرضها، إلى أن جاءت الصدفة وقرأت أن البرنامج الثانى بالإذاعة سيذيع مأساة الحلاج بإخراج إذاعى من بطولة الفنان العظيم محمود مرسى، واحتشدت لسماعها وبهرتنى المسرحية من خلال تذوق الأذن فقط، وتمنيت لو أننى رأيتها على خشبة المسرح إلى أن واتتنى الفرصة وسمعت أن مسرح الطليعة سيعرض شريط فيديو المسرحية الذى استعاره من التليفزيون، فذهبت إلى العتبة حيث يوجد المسرح الذى شكل وجداننا وثقافتنا المسرحية وقت رئاسة سمير العصفورى له، وكانت وجبة مسرحية دسمة حلق بى فيها الفنان محمد السبع بصوته الرخيم العذب النورانى وهو ينشد أشعار صلاح عبدالصبور فى أجواء صوفية شديدة الصفاء والشفافية، وعند صلب الحلاج بعد محاكمته العبثية فى نهاية المسرحية سالت دموع جميع الحاضرين وأنا معهم حزناً على فراق هذا الصوفى المحب العاشق المتيم الذائب الذى قتلته الذئاب.

قدم مسرح الطليعة بعدها بسنوات قراءة مسرحية خاصة لأجزاء من «مأساة الحلاج» من إخراج الفنان أحمد عبدالعزيز وبطولة محمود مسعود، وعلى ما أتذكر كان يشاركه البطولة سامى مغاورى، وظل حلمى بتقديم هذه المسرحية كاملة برؤية جديدة ومختلفة يراودنى طوال الوقت، وتتردد فى مسامعى ترنيمة الكورس وهو ينعى وينتحب واصفاً مهزلة محاكمة الحلاج قائلاً:

صَفُّونا.. صفاً.. صفاً،الأجهرُ صوتاً والأطول، وضعوه فى الصَّفِّ الأول، ذو الصوت الخافت والمتوانى، وضعوه فى الصف الثانى، أعطوا كُلاً منا ديناراً من ذهب قانى، برَّاقا لم تلمسه كفٌ من قبل، قالوا: صيحوا.. زنديقٌ كافر، صحنا: زنديقٌ.. كافر، قالوا: صيحوا، فليُقتل إنَّا نحمل دمه فى رقبتنا، فليُقتل إنا نحمل دمه فى رقبتنا، قالوا: امضو فمضينا، الأجهرُ صوتاً والأطول، يمضى فى الصَّفِّ الأول، ذو الصوت الخافت والمتوانى، يمضى فى الصَّفِّ الثانى.

ولكن هل قتل الحلاج وحوكم من أجل عشقه الإلهى، يأتى الرد من عبدالصبور على لسان أحد المتصوفة قائلاً: هل أخذوه من أجل حديث الحب؟، لا، بل من أجل حديث القحط، أخذوه من أجلكمو أنتم، من أجل الفقراء المرضى، جزية جيش القحط.

يا سادتى، الحلاج قصة لن تموت، ومادام هناك من يدعى أنه يحتكر حب الله والحديث باسم الله، سيصلب ألف حلاج.